ميراث النبوة
“الكتاب والحكمة” ميراث النبوة الموروثُ “كابراً” عن “كابر”، “قَلْباً” عن “قَلْب”؛ فهل هي قراطيسُ أتلوها أنا وتتلوها أنتَ وتَتْلِينَهَا أنتِ، فأتعلم أنا وأتزكَّى وتتعلم أنتَ وتتزكّى وتتعلمين أنتِ وتتزكَّيْنَ مُسْتَغْنِينَ عن الطبيب الخبير بالنفوس الذي يَصِفُ من “الكتاب والحكمة” عقاقيرَ مداويةً بحسب طبيعةِ عِلَّةِ كلِّ نفس وحالتها ودرجتها؟
في صيدلية “الكتاب والحكمة” عقاقيرُ وأدويةٌ لكل داء من أدواء النفوس، فما أنزل الله تعالى مع هبوط آدم إلى الأرض داءً إلاَّ وأنزل مع خاتم أنبيائه دواءَه. ولكن هل أستطيع وأنا لا علم لي بالطب وفنونِه ولا بالعقاقير وأنواعِها ونِسَبِهَا ومقاديرِها ومواقيتها أن أختار لِعِلَلِي ما يناسبها من أدوية بِأنواعها ونِسَبِهَا ومقاديرها ومواقيتها اللازمة للعلاج؟
فإن تعلمتُ وتزكيتُ وأنا فرد واحد، فمَن لهذه الأمةِ الْمُنَجَّمَةِ يُعلِّمُهَا الْعِلْمَ الجامعَ ويزكِّيها التزكية الجامعة وَيَجْمَعُ شتاتَها ويَلُمُّ شعثَها ويُوحِّد فُرقتَها لتكون قمينةً بالخيرية حقيقةً بالشهادة على الناس؟
“وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ“: يزكيهم ويعلمهم أفراداً وجماعةً؛ “وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ“: يخرجهم من ظلمات الضلال الفردي ومن ظلمات الضلال الجماعي إلى نور الهداية الفردية ونور الهداية الجماعية.
روى الطبراني بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه مرّ بسوق المدينة فوقف عليها فقال: يا أهل السوق ما أعجزكم؟! قالوا: وماذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقْسَمُ وأنتم هاهنا؟! ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟! قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد. فخرجوا سراعا ووقف لهم أبو هريرة حتى رجعوا فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة، قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نر فيه شيئا يُقسم! فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحدا؟ قالوا: بلى، رأينا قوما يصلون وقوما يقرؤون القرآن، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: وَيْحَكُمْ، فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم!
ذَكَّرَ أبو هريرة رضي الله عنه الناسَ بما يُتَدَاوى به من علل النفوس، مما هو من لُبِّ الدين وهو الاجتماع على الله تعالى في مجالس العلم والذكر المحفوفة بسكينته وبرحمته حيث رياضُ أُنْسِه. وسمى ما اجتمع عليه المؤمنون في المسجد: “ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم” الذي حَرَصَ هذا الصحابي الجليل على تذكير إخوانه من الصحابة ومن التابعين بفضائل الاِنتفاع به وبأمانة حفظه الموكولة إلى كل جيل إلى قيام الساعة.
وما ميراث النبوة إلاَّ ما أهاب أبو هريرة بالناس للاجتماع عليه والتعرض لنفحاته، وما لُبُّ هذا الدين غيرُ ما خلق الله الخلق لأجله: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ“، وما جوهرُ الرسالة سوى ما تَوَاتَرَ من شعار الأنبياء والمرسلين: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ: لآ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ“.
قد كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يَحْيَوْنَ تحت عين طبيبهم صلى الله عليه وسلم، يسقي قلوبَهم ويتعهد غَرْسَهم ويُشَذِّبُ ويهذِّبُ المستطيلَ من أغصان نفوسهم تحت مظلة الوحي يَتَنَزَّلُ غضّاً طريّاً نديّاً، فكيف تتحقق مهمته صلى الله عليه وسلم فينا ونحن من الْـ”وَآخَرِينَ” الذين “لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ” من إخوانه الذين لم يَرَهُمْ؟