أربعينية الجماعة في الميزان (1)
استدراك:
نقف هنا قبل استهلال هذا المقال لنسجل نُصْرَتَنَا للدكتور “محمد أعراب باعسو” في محنته، وندعوَ الله تعالى أن يعجّل بإطلاق سراحه ليعود إلى أهله وإخوانه وتلامذته ومحبيه سالما غانما، وأن يخزي الظالمين ويرد كيدهم في نحورهم آمين.
مقدمات:
تحيي جماعة العدل والإحسان منذ أسابيع الذكرى الأربعين لتأسيسها، فيما وصفته القيادة في بلاغها يوم 19 أكتوبر 2022 ب”أربعين سنة من العطاء والبذل والعمل المجتمعي الواضح والمسؤول على أكثر من واجهة، إسهاما منها في التأطير والاقتراح والدفاع عن مغرب أفضل لجميع المغاربة”.
ونجد أنفسنا في هذه المقدمة مضطرين إلى تسجيل بعض الملاحظات على البلاغ والمناسبة معا:
1- اضطر إعلام الجماعة إلى جمع كتائبه الإعلامية (الجماعة.نت ومومنات. نت وقناة الشاهد) في بوابة واحدة للتغطية على ضعف وترهل الجماعة الذي لم يسلم منه آخر حصونها وهو الإعلام. ففي الوقت الذي كان معدل النشر اليومي في موقع الجماعة.نت وحده – كما كان أواخر عهدنا به في 2018- سبع مواد على الأقل، هاهي البوابة الجديدة بكتائبها الثلاث لا يتعدى معدل النشر اليومي فيها مادتين في أحسن الأحوال. وهو مؤشر أَوَّلِيٌّ على الجدب الإعلامي الذي زحف على أرض التنظيم بعد أن رَدَمَ العينَ التي كانت تفيض بالمدد على روحه، فأُصِبْنَا بشيخوخة مبكرة مُعْجِزَة لا ينفع في التستر عليها المستوى التقني العالي والميزانية الكبيرة التي رُصدت لإعلامه على غير العادة.
2- تتزامن هذه الأربعينية مع مرحلة بلغ فيها مُحَرِّكُ الجماعة درجة من الفتور والانحسار غير مسبوقة، لعل أحد أبسط مظاهرها ما أصبحت تعانيه القيادة في تواصلها القليل مع الباقي من الأعضاء المنتظمين من حرج بالغ أمام سيول تساؤلاتهم الحائرة حول ما تتخبط فيه القيادة من تناقضات في عدة قضايا وعلى رأسها قضية الصحبة، ومن مراوغات مكشوفة حيال ما تعاني منه الجماعة من جَدْبٍ تربوي وتآكل تنظيمي لم يقابَل لا بالمراجعة ولا بالاستدراك ولا بالحوار ولا بالبيان ولكن بترحيل الأزمة وتشويه أصحاب الرأي والتولي عن تحمل المسؤولية التي تُلزمهم أخلاقيا وتنظيميا بالإجابة الآنية الصريحة الواضحة عن كل ما يُطرح عليها من أسئلة مشروعة.
3- من مفارقات زمننا البئيس بقيادتنا أنه في الوقت الذي كان منبر مجلة “الجماعة” هو الباب الذي فتحه الإمام رحمه الله ليُدخل منه نورَ ومشروع المنهاج النبوي فيبلغه إلى الناس قبل أكثر من ثلاثة وأربعين عاما، فَتَحَتْ قيادة التنظيم بوابةً بنفس الاسم (aljamaa) لِتُخْرِجَ منها هذا المشروع العظيم جثة هامدة ولِتَنْعَاه إلينا في أربعينية النحس تشهد كل سنة منها على معاول الهدم التي كانت تُعْمِلُهَا في أساس البناء ونحن عن تدبيرها غافلون! فبعد الإجهاز على أَوّل الْخَلَاصَيْنِ ودُرَّةِ الْـمَطْلَبَيْن وأسمى الغايتين: “الإحسان”، وذلك بقطع الطريق الوحيد الموصل إليه وهو “صحبة رجل حي يدل على الله”، وبتحريفه إلى زُورٍ وبهتان ظاهِرُه صحبة أفقية جماعية يستحيل أن يتجاوز معها الوارد درجة الإيمان، وباطنُه “مصحوب ضِرَار” متمثل في مجلس إرشاد فَقَدَ شرعيته منذ أن تنكر لوصية الإمام ومشروعه. بعد هذا جاء دور القضاء على ثاني الْخَلَاصَيْنِ والْـمَطْلَبَيْن والغايتين: “الخلافة على منهاج النبوة”، وذلك بحصر أفق الزَّحف فيما وَرَدَ في بلاغ القيادة حيث اعتبرت أن الجماعة “تجاوزت أربعين سنة من العطاء والبذل والعمل المجتمعي الواضح والمسؤول على أكثر من واجهة، إسهاما منها في التأطير والاقتراح والدفاع عن مغرب أفضل لجميع المغاربة”.
هكذا ومن غير أن يَنْدَى جبينُها بقطرة حياء، وبعينين جاحظتين حمراوين، وبكامل الوضوح الذي لا يحتاج إلى تأويل!
فَمِنْ “رحاب عمل الليل والنهار، وجُهد العقل والجسد والقلب…”(1)، ومن جهاد الطليعة المجاهدة التي تتمكن “من إمامة أمة الاستجابة وتُجَنِّدُها، وتقودُها، وتربيها، وترفعها إلى كرامتها الآدمية، وتحررُها فكرا ومعاشا، وتُحييها بحياة المشاركة في تدبير أمرها، تآمُراً بالمعروف وتناهيا عن المنكر، وشورى، وتنفيذا…”(2)، إلى الرضى بأن تنحصر وظيفة الجماعة في “المساهمة في التأطير والاقتراح”!
ومن دعوة “خلافة ثانية على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويُلقي الإسلام بِجرانه في الأرض…”(3)، إلى خطاب حزبي مَقيت أقصى أهدافه وأعزُّ غاياته “مغربٌ أفضل لجميع المغاربة”!
ألا إنه النَّعْيُ الرسمي الذي كَبَّرَ على مشروع المنهاج النبوي أربع تكبيرات من البوق الذي كان يُفْتَرَض أن ينافح عنه ويفديه بمُقْلَتَيْهِ ومُهجته وماله وأهله وحياته.
فلا حول ولا قوة إلا بالله!
4- ألا يحق لنا نُذَكِّرَ بما كان بالأمس مخاوف ثم أصبح اليوم واقعا مريرا؟
فها نحن نرى توجه القيادة إلى تنصيب الجماعة – والمقصود الحقيقي قيادتُها – مصحوبا ورمزا تاريخيا ومؤسِّسا ومخطِّطا وموجِّها بديلا عن الإمام الذي أصبح اسمه الشريف عبئا نفسيا ثقيلا لأنه لا يُذْكَرُ في حضرتهم إلا ذَكَّرَهم بالجريمة التي ارتكبوا في حقه وفي حق مشروعه العظيم. وفي حملة “علمتني الجماعة” دلالة على هذا التحول الرهيب في المصدر والمرجعية والطريق والغاية، وعلى التنكر لصاحب الفضل سيدنا ومولانا الإمام رضي الله عنه بدل عَزْوِ فضله إلى غيره (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ)(4)، وبهذا تَرْجُحُ في نظر القيادة – ومِن ورائها الأعضاء الصادقون المخدوعون – كِفَّةُ “الجماعة/ التنظيم” بما يمكن أن يُعَزِّزَها من مزيد ترميز للقيادة التنظيمية والسياسية، في مقابل كِفة “الإمام المرجِع والمؤسس وصاحب المشروع”. وهذا هو الاتجاه الذي مضت فيه القيادة حتى قبل تدشين الحصار والإقامة الجبرية المخزنية والتنظيمية على إمامنا رحمه الله وإلى الآن في سعي حثيث ومغالبةٍ عنيدة مُصَمِّمَة على اختطاف الرمزية المرجعية والتربوية والتنظيمية والتاريخية التي خصه الله بها رضي الله عنه. وليست الجماعة إلا بعضَ صنائعه رحمه الله. ولولا ما خَصَّه الله تعالى به من فضل ما سمع بها وبمن يقودها اليوم إلى الهاوية سامعٌ ولا أَبَهَ بها ولا بِهِمْ آبِه. فإنما كانت الجماعة به وما كان هو بها ولا بِهِمْ قَطّ. ولن تكون الجماعة حاضرا أو مستقبلا إلا برجل حي دال على الله وَفِيٍّ لمنهاجه النبوي التليد.
5- أكد بلاغ القيادة أن الأربعينية “فرصة لتقاسم محطات بارزة في تاريخ الجماعة منذ تأسيسها، والوقوف عند إسهاماتها ومواقفها في عدد من المجالات والقضايا الخاصة والعامة”. ويبدو أن هذه المبادرة كشفت ما تعانيه قيادتنا من أعراض “الزهايمر” الذي أصاب دماغها التنظيمي، فاضطرب تفكيرُها وخطابُها وذاكرتُها وحركتُها على حد سواء. فلهذا نتساءل:
لِمَ حصرت القيادة الفترة الزمنية المراد “تقاسم محطاتها” في مرحلة ما تعتبره هي “ما بعد التأسيس” أي ابتداء من سنة 1981 وليس قبلها؟ ولا عجب في هذا، فقد عودنا قادة الجماعة هداهم الله أنهم كلما أحرجهم سِفْرٌ أو شريط أَوْ وصية من ميراث الإمام العظيم وَأَدُوها أو حاصروها أو رَمَوْها خلف جُدُر الزمن الكفيلة باعتبارها تراثا تجاوزه الزمنُ والسياق والظرف. والبركة في طابور أصحاب الفتاوي والتفهيمات “المنهاجية” الجاهزة، المفتين في الأمر الجليل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير!
فأين مطلع عام 1966 وهو الميلاد الحقيقي لإمامنا رضي الله عنه حين ساقته العناية الإلهية إلى ظل الحاج العباس رضي الله عـنهما والذي لولاه ما كان هنالك من تأسيس ولا تنظيم ولا جماعة ولا مشروع؟
وأين كتاب “الإسلام بين الدعوة والدولة” (1972) وأين كتاب “الإسلام غدا” (1973) وقد خَرَجَتْ علينا موسوعةُ “سراج” (siraj.net) في زينتها تُصَنِّفُهما في خانة ما “قبل التأسيس”! كيف وهما الأساس الذي بنى عليهما الإمام رحمه الله مشروع المنهاج النبوي التجديدي!
وأين جهاده وجهاد صاحبيه المحمَّدَيْن – رضي الله عنهم جميعا – في ملحمة “الإسلام أو الطوفان” في ذلك الموقف التاريخي العظيم العصيب الذي يكاد يتفرد به إمامنا في تاريخ الناصحين؟
بل إن الدكتور عمر إحرشان وهو القيادي وعضو الأمانة العامة للدائرة السياسية وعَرَّاب الحزبية التي ننحدر إليها ونندحر فيها، اعتبر في كتابه “أضواء على المشروع المجتمعي لجماعة العدل والإحسان” (2004) اعتبر رسالة “الإسلام أو الطوفان” التي كتبها إمامنا رحمه الله عام 1974 “أول عمل تقوم به جماعة العدل والإحسان في شخص مرشدها وبعض مسيريها”(5). كان هذا في حياة الإمام رحمه الله، ولكنهم اليوم ينكصون، فما حملهم على هذا؟
المشكلة في أن إرادة قيادة الجماعة لم تعد تتحمل سقفَ الموقفِ الرجولي المكلِّف وتبعات الكلمة الصريحة المسؤولة فشرعتْ في حملة للتصحيح بالقلم الأحمر والممحاة حتى قال عضو مجلس الإرشاد ورئيس الدائرة السياسية الدكتور عبد الواحد متوكل في لقاء من اللقاءات متحدثا عن رسالة “الإسلام أو الطوفان”: “إنها لا تُلْزِمُ الجماعةَ وإنما تُلْزِمُ صاحبَها فحسب”! وهذا ما أكده بالحرف عضو الأمانة العامة للدائرة السياسية الدكتور محمد منار باسك في ندوة 16 غشت 2011 حين قال بأن “كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين لا تمثل فكر وتصور الجماعة”!
وأين جهاد الإمام المرشد العلمي المسجدي الذي دشنه مباشرة بعد خروجه من اعتقال الملحمة عام 1978 فوأَدَه المخزن في مهده؟ وأين جهاده وجهاد أهله حين فتح بيته منذ ذلك الوقت أمام الأفواج التي كان يغص بها كل يوم؟
وأين جهاده الإعلامي حين أصدر رضي الله عنه مجلة “الجماعة” ربيع عام 1979، وهي المنبر الذي انتزعه الإمام رحمه الله من بين مخالب الاستبداد انتزاعا في سياق عامٍّ صعب وسياق خاصٍّ كان فيه فارسَ الميدانِ الأوحدَ الأعزلَ الذي بذل من ماله ووقته وراحته وفكره وقلبه وصحته ومهجته، فانتشل بخطابه النَّيِّرِ الشبابَ التائهَ حينها من شِباك نُخَبٍ سياسية انتهت إلى الإفلاس، ومن أزمةِ تجربةٍ إسلامية أَجْهَضَهَا خذلانُ وضعف خبرة قيادتِها الهاربِ بعضُها من ساحة المعركة. وعرض مشروع المنهاج النبوي على صفحات المجلة الوليدة، فَجَذَبَنَا رحمه الله إلى رحابه كما يَجْذِبُ المغناطيسُ الحديدَ، واحتضننا تحت جناحه على غير استحقاق منا، ولقن كبيرَنَا قبل صغيرنا أوليات التربية وأبجديات الفهم ومبادئ الحركة وكنا جميعا قبل ذلك من المراهقين الشاردين الغافلين. مجلة كانت غاية مؤسسها رضي الله عنه أن تكون لسان حال مشروع يجمع أطياف الإسلاميين في “جماعة المسلمين”. وكان يعتبر جماعته الوليدة في شتنبر 1981 “أسرةً” من “الجماعة”، أي من “جماعة المسلمين” الموعودة.
وأين جهاده التوحيدي رضي الله عنه قُبَيْل وبُعَيْدَ تأسيسه “أسرة الجماعة” حين كان يطوف البلاد أو يرسل المبعوثين للتواصل مع أطياف الحركة الإسلامية وفضلاء البلد لجمع الصفوف وتوحيد الغاية وإعداد الوسائل؟ كيف سَوَّلَت لكم أنفسكم أن تمحوا من تاريخ الإمام ومن تاريخ مشروع المنهاج النبوي ميلادَه وتنسخوا مُبْتَدَأَه وتستأثروا بخبره وتتجاهلوا رَمْزَه وتنسفوا أساسَه وتُنْكِرُوا جهادَه؟ وأين وأين وأين! لقد صدق من قال:
إذا قلَّ ماءُ الوجهِ قلَّ حياؤهُ *** فلا خيرَ في وجهٍ إذا قلَّ ماؤهُ
إنه الزَّحْفُ الأَرَضِيُّ (نسبة إلى الأَرَضَة) الذي يحاول عَبَثاً أن يَأْرُضَ أوراق منهاج نبوي يُسَبِّحُ كلُّ حرف من كلماته بحمد ربه تسبيحا. وإن هذا المنهاج قبل أن يكون كلمات مسطورة في القراطيس هو نور رباني خالد لن يفلح في إطفائه جحود الجاحدين أو نكوص الخاذلين أو صمت الْخُرْسِ المتفرجين. وهو ميراث نبوي مبارك نحن في صدق وعده من الموقنين… “فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ”.
_____________________________________
(1): الإمام عبد السلام ياسين، “الإحسان”، ج 2، ص: 8.
(2): الإمام عبد السلام ياسين، “إمامة الأمة”، ص: 233.
(3): رواه الإمام أحمد والبزار.
(4): سورة الأحزاب، الآية: 5. (5) أضواء على المشروع المجتمعي لجماعة العدل والإحسان، ص: 38.