سيد من العظماء (1) تقديم
(1)
تقديم
كثيرا ما نقيس عظمة العظماء بحجم إنجازاتهم الظاهرة للعيان، وبمساحة مآثرهم على الأرض، وبقدْر ما يملأون من الدنيا وبعدد ما يشغلون من الناس، وبسرعة تطاير ذكرهم على الألسنة تطايُر الأوراق الخريفية في اليوم الراحي.
في التاريخ كثير مِمَّنْ خَلَّدَتْهُم إنجازاتهم بحق في دنيا الناس أو في الملإ الأعلى أو فيهما معاً، وفيه كثير ممن حَمَلَتْ ذكرَهم الأحداثُ إلى الواجهة كما يحمل تيار النهر الجاري زَبَدَه الطافي على سطحه إلى قَدَرِهِ.
وفي التاريخ كثير من طالبي الرفعة لأقلامهم بالكتابة عن كلِّ ذي ذِكْرٍ طائشٍ طائر، شُهُوداً على ما شهدوا وما لم يشهدوا، يَرْكُمُهُمُ الْقَدَرُ جميعاً إلى مكانهم المناسبِ من التاريخ مناسَبَةَ ما يَتْبَعُ وَيَسْتَتْبِعُ ما تَجْمَعُ القِدْرُ من طعام بعضَه إلى بعض فوق نار واحدة.
والبسطاءُ من الناس؟ هل التاريخ وصناعة التاريخ حَكْرٌ وحَصْرٌ على كل مَنْ أشارت إليه الأصابع دوناً عنهم؟
فأين حظ هؤلاء البسطاء من أصابع الإشارة وأسماء الإشارة في هذه الصناعة وتلك الرفعة وذلك المجد؟
وهل الموت موتان: موتٌ أَوَّلُ هو حقٌّ وقَدَرٌ لازمٌ محتومٌ كَتَبَهُ الله تعالى على كل نفس، وموتٌ ثانٍ نحكم به نحن على البسطاء، ونستثني العظماء بحسب مقاييس العظمة السالفة الذكر؟
طافت هذه الأسئلة بنفسي ونحن نشيِّع سيِّدَ قَوْمٍ عظيماً ورجلا مؤمنا بَسَّاماً وديعاً لم تُشِرْ إليه الأصابع ولو بمعشار ما اعتادت أن تشير به إلى غيره، ولا نال سطراً مُفْرَداً يتيماً في مَكْتُوبِ من يكتب من الناس عن الناس لأنه لا إنجازَ يَتَمَثَّلُ لأعين الرؤوس قائماً يُذَكِّرُ به وبمكانته، ولا تُرْجُمَانَ ينطقُ فصيحاً عن منْزلته، ولا الْتَفَّ حوله يوماً لَفِيفٌ لاهِثٌ لاهجٌ باسمه، ولا موكب كان يفسح الطريق بين يديه يخترق صفوف العباد، ولا وُشِّحَ صدرُه الْمُفْعَم الْمَشْبُوبُ محبةً لله ولرسوله وللمؤمنين بوسامٍ من هذه الأوسمة الدنيوية العمياء، ولا حمل نياشين على كتفيه اللذين هَدَّهُمَا ثِقَلُ الْهَمِّ وحُسْنُ الخدمة وعبءُ البناء وَجَهْدُ الجهاد وطولُ المسير وعُرْبُونُ الصِّدْقِ وضريبةُ السَّبْقِ، ولا كان يجلس إلاَّ حيث ينتهي به مجلسه من الناس، حيث يبتدئُ مجلسُه هو من ربِّ الناسِ العليمِ بما في صدورِ الناسِ، حيث تُلْتَمَسُ رحمةُ رَاحِمِ الناس، ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (1).
رحمك الله يا سيدي يا “محمد أنوار”؛ رحمك الله ورضي عنك وأرضاك، ورفع مقامك وأجزل عطاءَك ونَوَّلَنا ونَوَّلكَ مما يرضيه تعالى آمالَنا وآمالَك، وجزاك خير ما يجزي به الصادقين من عباده وأحبابه ومحبوبِيه آمين.
(1) الأعراف/ 56.