فرقنا الغنائية – أفكار من أجل التأسيس (1) مقدمات
مقدمـات
مقدمة أولى:
الحمد لله الوهَّاب الفتَّاحِ الْعليم، حمداً يليق بمن منح فأكرم وأجزل فأنعم؛ والصلاة والسلام على المصطفى الهادي الأمين، من تعطر الكون بشذى أنفاسه الزكية الزاكية، فلا تحلو لِذِي قلب حياةٌ ولا حركة ولا سكون إلاَّ ونور وجهه صلى الله عليه وسلم يفيض على الروح بأَنْعُمِه، ودفءُ حِضْنِه الشريف يبعث في النفس من قوة النفس طاقةَ ألفِ نفس، وعلى آله وصحبه والتابعين، والمقتدين بهديه السَّنِيِّ السامي إلى يوم الدين.. أما بعدُ..
فهذه خلاصةُ نظراتٍ مُتفكِّرةٍ في مسيرة عشرين سنة من الممارسة الفنية الميدانية، مُتَهَمِّمَةٍ بِحاضرنا الجالب علينا بخيله ورَجله، متطلِّعةٍ إلى مستقبلٍ فنيٍّ مَشِيدٍ على أركان جديدة شديدة.
نظرةٌ فَرَضَتْها طبيعةُ العمل الميداني الذي يحتاج إلى المراجعة والتجديد بين الفينة والفينة، وتَطَلُّعٌ ألَحَّتْ عليه الوتيرة السريعة للتحولات الذاتية والموضوعية الظاهرة والخفية، ودفع إليهما الْفَحْصُ الدائمُ للقاطرة التي تَجُرُّ عَرَبَاتِ العمل الفني في تَفَانٍ وصبر، والمتابعةُ الدقيقة لاتجاه السكة أمامها. وأتحدث هنا عن المراجعة والتجديد والتطلع والفحص والمتابعة الدقيقة وما هي، واللهِ الذي لآ إله إلاَّ هو، إلاَّ توفيقُ الله تعالى ومَعِيَّتُه تَكْلأُ عملَنا وتوجِّهُه وترعاه وتحفظه وتقوِّيه وإنْ خُيِّلَ إلينا أن بِجُهدنا بلغْنَا ما بَلَغْنَا ونَبْلُغُ ما نَبْلُغ!!!
مقدمة ثانية:
ربما كان للأجيال الْخَالِيَة من أبناء الصحوة الإسلامية عُذْرُها إذْ لَمْ تَجْمَعْنَا ولو على ملامح مشروع فني قابل للنقاش واللَّمْلَمَةِ والترميم، ولكن لا عذر لنا نحن ونحن حَمَلةُ مشروع نبويٍّ تغييري تجديديٍّ شامل نراه مُجَدِّدا للدين والدنيا معاً… فلا نَرْكَنَنَّ إلى راحةِ انتظارٍ لا يَلِيقَانِ بنا.
ما يليق بنا هو أن نشُقَّ الطريق ونُعَبِّدَها لِلشَّاهد من هذه الأجيال واللاَّحِق بِها، ونَتَفَكَّرَ جماعةً في أمر هذا الثغر الذي نرابط عليه، ندرك به عند مولانا وبارئنا، بإذنه سبحانه، درجات الْمُوَفَّقِين من خُدَّام دعوته.
مقدمة ثالثة:
سَمَّيتُ الله تعالى وشرعت في تسطير هذه الصفحات، وما كان همِّي أن أُقنع من يقرأني بقدر ما كنت راغباً في استدراجه إلى أرضية للتواصل والتحاور والتعاون في مضمونها لِنَقْصِدَ في مَشْيِنَا ونسيرَ جميعاً على بصيرة إلى الْمَرَام المعلوم.
المخاطَبُ بهذه السلسلة عُمومُ أهل الصحوة الإسلامية لارتباط موضوعاتها بهم من قريب أو بعيد، وخصوصُ مَنْ يمارس أيَّ فن من الفنون منهم لتشابه الممارسات الفنية في مُخْتَلِف الأشكال التعبيرية، وأَخُصُ من بينهم من يمارس فن الغناء فرديّاً أو جماعيّاً لِتَعَلُّقِ الموضوعات بهم مباشرةً.
وربما تساءل متسائل: ما لنا ولهذا كله؟ لِمَ كل هذا التعقيد؟ وهل يحتاج العمل الفني وتحرُّك الفرق الغنائية إلى كل هذا الكلام بِحَيْثِيَّاتِه وتصنيفاته وتفصيلاته؟ ولِمَ كل هذا الْحِرص على التميُّز عن الناس ونحن من الناس؟ لِمَ كلُّ هذا الإلحاح؟ “ألهذا جَمَعْتَنَا”؟
فأجيب: إن مِنْ تَجلِّياتِ التجديدِ ومظاهرِهِ ودلائِلِه أن يَنْفُضَ ويَجْلُوَ كلَّ شؤون الحياة الدنيا للحياة الآخرة؛ وما نكون إن لم نَكُنْ أدَاةً لتجديدِ الفنِّ وشأنِ الفنِّ وحركةِ الفنِّ وروحِ الفن وأهل الفن ورسالة الفن؟
التَّجديدُ الأَعْظَمُ نَحْنُ كَلِمَتُه لتجديد روح الفن.
التجديدُ الأَعْظَمُ نَحْنُ أَدَاتُه لتجديد شأن الفن.
التجديدُ الأَعْظَمُ نَحْنُ يَدُه لتجديد حركة الفن.
تجديدٌ أعظمُ: الصُّحْبةُ دليلُه، والصُّحبة بابه، والصُّحبة مفتاحه.
حديثٌ عن الصحبة الْمُجَدِّدَة والفن وأهل الفن؟!
لنتأمَّل في أَثَرٍ من آثار الصُّحْبَة على الفن وعلى أهل الفن:
روى ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم بالشِّعْر من بني تَميم أن الزّبرقان بن بدر لَمَّا قَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تَميم قام فقال:
أتينــــاك كَيْمَـــا يَـــعْلَـمَ الـــنـاسُ فضـلَنا بـــأنَّا فـــروعُ النـاس فِي كـــل مـــوطنٍ وأنَّا نَـــذُودُ الْمعـــلميـــن إذا انـــتـــخـوا وأنَّ لـــنَـــا الْرمِـــرْبَـــاعَ فري كـــل غـــارة | إذا احـــتــفلوا عند احتـــضارِ المــــواسمِ وأنْ ليـــس فـــي أرض الحـــجـاز كَدَارِمِ ونضـــــرب رأسَ الأَصِيدِ الْمـتـــفـــاقـمِ نُـــغِـــيـــر بـــنـــجد أو بـــأرض الأعــاجـمِ |
فقام حسان بن ثابت فأجابه فقال:
هـــل الْمجــدُ إلا السؤدد العود والندى نَـــصَـــرْنـَا وآوَيْنــــا النـــبـيَّ مـــحـــمـداً بِـــحـــي حــــــريـــــد أصـــلــه وثـــــــراؤه نصرنـــاه لَـــمَّـــا حــــل وُسْـــطَ ديــــارنـــا جـــعـــلـــنـا بنــــينـــا دونــــه وبـــنـاتـــنـــا ونـحن ضربـــنـــا الناس حــتى تتابعوا ونـحن ولـــدنـا مـــن قـــريـــش عظيمها بني دارم لا تفخـروا إن فخـركم هبـلتم علـينا تفخـرون وأنتـم فإن كنتم جئتم لـحقن دمـائكم فـلا تـجعلوا لله نـداً وأسلمـوا | وجاهُ الْملـوك واحتمـال العظائمِ على أنف راضٍ من مَعَدٍّ وراغـمِ بجابية الجـولان وُسْطَ الأعـاجمِ بأسيافنا من كل بـاغ وظــالِمِ وطبنا لـه نفساً بفيء الـمغانـمِ على دينه بالـمرهفات الصـوارمِ ولدنا نبـي الخيـر من آل هاشمِ يعـود وبالاً عنـد ذكر الـمكارمِ لنا خـول ما بين ظئـر وخـادم وأموالكم أن تقسموا في الـمقاسمِ ولا تلبسوا زياً كزي الأعـاجـمِ |
قال ابن إسحاق: فلما فرغ حسان بن ثابت من قوله قال الأقرع بن حابس: وَأَبِي (يُقْسِمُ بأبيه) إن هذا الرَّجُلَ لَمُؤْتىً له (يقصدُ سيدَنَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم): لَخطيبُه أَخْطَبُ مِن خطيبنا، ولَشاعره أَشْعَرُ من شاعرنا، ولأصواتهم أحلى من أصواتنا. فلما فرغ القوم أسلموا وجَوَّزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم !
أرأيتَ أيها المتسائل المتساهل إلى ما أقسم وأكَّد عليه الأقرع بن حابس:
“وَأَبِي.. إن هذا الرجل لَمُؤْتىً له”: (مَعْطِيهْ) كما نقول في عامِّيتنا.. كانت بشاشةُ الإيمان مَحْبُوسةً عن قلبِ بن حابس، ولكنه أحس بروح الشاعر مِن هيمنة روح الشعر المُؤَيَّد بروح القدس أن النبع الذي يرتوي منه شاعرُ النبِيِّ وخطيبُه وصَحْبُه، صلى الله عليه وسلم، هو انتسابُهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
“لَخَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا”! يُضِيفُ أَفْضَلِيَّةَ خَطَابَةِ الخطيبِ إلى الْمُضاف إليه صلى الله عليه وسلم.
“وَلَشاعِرُهُ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا”! يُضِيفُ أَفْضَلِيَّةَ فصاحةِ وشاعريةِ الشاعر إلى الْمُضاف إليه صلى الله عليه وسلم.
“وَلأَصْوَاتُهُمْ أَحْلَى مِنْ أَصْوَاتِنَا”!!! يَعْجَبُ من حلاوة أصوات عامة الصحابة أو خاصَّةِ خطبائهم وشعرائهم لاِنْتِسابِهم إليه صلى الله عليه وسلم.
أرأيت إلى الصُّحْبَةِ كيف تؤثِّر حتى في خَطابة الخطيب (وهو أمر متعلِّق بالعقل وبالنفس) وفي شاعرية الشاعر (وهو أمر متعلِّق باللغة وبالخيال وبالشعور) وفي نَبَرَاتِ الأصوات (وهو أمر متعلق بالجسد)!!!
ما أحلاها صحبَةً يَفْصُحُ معها لسان الخطيب، ويتسامى بِها خيال الشاعر، وتَحْلُو لَهَا أصوات الأصحاب!!!
هذا الحدث من السيرة النبوية العطِرة وثَّق به الرواة لِمَشْهد رائع رائع رائع تحت عَيْنَيْ حبيب الله صلى الله عليه وسلم. وما لم يوثِّقه الرواة هو تجاوبُ النبي صلى الله عليه وسلم مع أبطال الحدث قَبْلَ أنْ يُجَوِّزَ الضيوف المؤمنين لِتوِّهِم جوائزَهُم.
وَإِنِّي لأَتَخَيَّلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مُتَهَلِّلاً مبتسماً مستبشراً فَرِحاً بالله وبفضل الله وبرحمة الله وبِـ”عِيَالِه” الذين ربَّاهُم على عينه وعلَّمَهُم وبارَكَهُم، عليه الصلاة والسلام، فترجموا عنه فكانوا خير تَرَاجِمَة، وبلَّغوا فأحسنوا تبليغ ما استُؤْمِنوا عليه. أتخَيَّلُه صلى الله عليه وسلم مُتَهَلِّلاً مبتسماً مستبشراً فَرِحاً بفضل الله عليه وعلى عياله قبل أن يُسْلِمَ بنو تَمِيم.
وإني لأتخيَّل شاعر النبي وخطيبَه وصَحْبَهُ عيوناً تَبْرُقُ بالحمد أن سُخِّرُوا إلى خير ما يُسَخَّرُ إليه إنْسان، وسِيقُوا إلى رضا الحليم الْمَنَّان قُلوباً موصولَةً بقلب الحبيب صلى الله عليه وسلم “يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ”، يغذِّيها بأنواره وعلمه وحكمته وجماله ورحمته وحنانه. قلوبٌ تنوَّرَت إذْ كان لها صلى الله عليه وسلم دليلاً وهادياً وسراجا منيراً، ونَعِمَتْ تحت ظله الشريف وروحه الْمُنِيف براحة القلب وسكينة القرب ونعمة الحب. ومن علامات الحب أن يسير المحب تحت جناح محبوبه في ظِلِّهِ على عينِه لا يغيب عنها أبداً.
ما أعظمَه مِنْ فَلاَحٍ أن نُرْفَعَ إلى أُنْمُوذَجِ مَنْ شُرِّفوا بصحبة الحبيب المعصوم صلى الله عليه وسلم، ونَثْبُتَ في رباطنا لا نتزعزع عن خط سيرنا ولا نتزحزح مهما كانت العقبات. مهما كانت العقبات. مهما كانت العقبات…
خلاصة أولى
بهذه الروح أرجو أن يُفْحَص هذا الكتاب إن شاء الله، وبهذه العين آمُلُ أن يُقْرَأَ. فَأنْعِمْ بها من روحٍ سُقِيَتْ من يد الحبيب ما لا تَظْمَأُ بعدَه إلى ما في يَدِ غيرِه صلى الله عليه وسلم، وأَكْرِمْ بها من عين لا تلتفت عن نهج مَنْ نَوَّرَهَا بسناه وأظلَّها برضاه إلى ما لا أصل له ولا نَسَبَ إلى الحق ولا نورَ يَمْشِي به في الخلق.
فأرجو أن أجد مِمَّن يُهِمُّه ما يُهِمُّني تجاوباً وتواصلاً وتعاوناً كافيا لتكون لنا قاعدةٌ متينةٌ نؤسس عليها حركتنا الفنية المكنونةَ في ضمير الغيب.
“رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ”.. آمين.. آمين.. آمين..