ومن الحب دعاء ورجاء
لماذا استهل البوصيري بردته بذكر شوقه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
ألا إنه لَفَيْضُ الحب والشوق يفيض به القلب مع أول نسمة عبير من المحبوب تَنْفَحُ روح المحب بنفحاتها. وإنه لَبُكَاءُ الطفل الصغير ينهمر دمعُه ويزداد نحيبُه وهو يعانق صدر أمه إن ضَلَّ عنها أو غابت عنه، كأنه يشكو إليها ما لقي في غيابها وما كابد مِنْ بُعْدِهَا مِنْ بَعْدِهَا. وإنه توسل الحبيب إلى محبوبه بما يكابد فيه ويقاسي من نَوَاه. وإنها لَلَوْعَةُ التعلُّق بمن يَسْبِي لُبَّ القلب وثمرتَه.
أين لوعاتُ المحبين وأشواقُ العاشقين وزفراتُ الوالِهين من لوعات وأشواق وزفرات من تَعَلَّقَ قلبُه بأنورِ روحٍ وأطهرِ قلبٍ وأجملِ مَنْ شهد الْمُلْكُ والملكوتُ بمحبوبِيَّتِه إلى ربه وقربِه منه واستظلالِ الخلق بظلِّهِ صلى الله عليه وآله وسلم المحفوف بعناية العرش؟
ما استظل مستظل إلاَّ بما نَدِيَ من ظله صلى الله عليه وآله وسلم. ولا اهتدى سارٍ إلا تحت نورٍ من أنوار شمسه صلى الله عليه وآله وسلم. ولا قُسِمَ لعبد نصيب من رحمةٍ رَاحِمَةٍ إلا ورحمةُ العالمين ولِيُّهَا وقاسمه.
توسل البوصيري رحمه الله إلى ربه بِمُقَدَّمِ محبته لنبيه وحبيبه في مطلع البردة لِمُؤَخَّرِ حاجته في خاتمتها. كأنه يقدم بين يديه ما لا يَرُدُّه الكريم على المستجير بحماه: صدقَ ولائه لمن ينتسب إليه بنسب الحب. لكأن الحب هو بابُ الرجاء، ولغةُ الدعاء، وذاتُ الوسيلة، وموضوعُ الخطاب، ومنتهى الطلب، وغايةُ الأرب.
أَيُّ خطابٍ مُحِبٍّ ذاك بل أي دعاء! خطابٌ رقيقٌ ورجاءٌ مُسْتَبْطَنٌ سَدَاهُ الحب، ولُحمته الحب، وحاديه الحب، ونسيمه الحب، والْمُهْدَى إليه هو عنوانُ الحب، ودليل الحب، وجوهرُ الحب، وذاتُ الحب، ومَعِين الحب، وكل الحب.