الصفحة الرئيسيةمقالات

الوظيفة المتجددة

ابتعث الله الأنبياء والمرسلين يُؤَيِّدُ اللاحقُ منهم دعوةَ إيمانِ ودينَ من سبق يُؤَكِّدُهما وَيُجَدِّدُهما، فلما ختم سبحانه الْعِقْدَ النورانِيَّ بواسطته حَمَلَ اللواءَ وَوَرِثَ الأمانةَ عنه وارثون مُجَدِّدُون ليسري نورُه صلى الله عليه وسلم ونورُ الْوَحْيَيْنِ إلى قلوب الخلق يهتدي بهما المهتدون أبد الدهر.

تجديد للإيمان وللدين؟! وهل يَبْلَى الإيمان والدين ليحتاجا إلى تجديد؟!

يقول صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ الإِيـمَانَ يَخْلُقُ فِي القَلْبِ كَمَا يَخْلُقُ الثَّوْبُ فَجَدِّدُوا إِيمانَكُمْ” (رواه الإمام أحمد وحسَّنه السيوطي). وفي رواية: “إِنَّ الإِيـمَانَ لَيَخْلُقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلُقُ الثَّوْبُ فَاسْأَلُوا اللهَ تَعَالَى أَنْ يُجَدِّدَ الإِيـمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ” (رواه الطبراني في “الكبير” والحاكم في “المستدرك”) .

لتَأَمَّل بيانه صلى الله عليه وآله وسلم في عبارة: “فِي الْقَلْبِ” وعبارة: “فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ”!!!

الإيمان ليس صناعةً بشريةً أو إنتاجاً أرضيّاً وإن اعتنقه بشرٌ وحَمَلَتْهُ أوعيةٌ أرضية. والإيمان ليس ثمرة من ثمرات التاريخ أو إفرازاً من إفرازاته وإن كان عاملاً حاسما في صيرورته. إنما الإيمان معنىً سَامٍ سماويُّ المنبع، ورزقٌ مبارَكٌ عُلْوِيُّ الأصل، وماءٌ سلسبيل فِرْدَوْسِيُّ الْمَعِين، ولكنَّ هذا الماءَ يَتَقَمَّصُ صفةَ الوعاء (النفْس) الذي يحتويه، وذلك المعنى يَتَجَنَّسُ بجنسية الْمْوَطِن (القلب) الذي يقيم فيه، وذلك الرزقَ يتأثر بطبيعة الأرض (الروح) التي ينبت فيها وينطلق منها قوةً أو ضعفاً أو موتاً، وزيادةً أو نقصاناً أو حرماناً، وحرارةً أو فتوراً أو جموداً بحسب مقام العبد من الإيمان أو تَمَكُّنِ الإيمان منه وبحسب حصيلته من شُعَبِه ومُجَدِّدَاتِه.

ومثل الإيمان في قلب ابن آدم كمثل الفتيلة: تشتعل وتَتَّقِدُ وتَشُبُّ ويزيد تَأَجُّجُهَا حتى تصير جاحِمَةً كلما أَذْكَاهَا بالْمَدَدِ من الحطب شَبُوباً لألسنتها، وتخمد وتخبو حتى تصير هامِدةً هَابِيَةً إن لم يَمُدَّهَا منه بشيء.

نعم، دين الله ربَّانِيُّ المصدر، ودينُ الله إنما جاء ليذكِّرَ بني آدم بالعهد الفطري القديم الذي أُخِذَ عليهم قبل أن يهبط أبوهم إلى الأرض، ولكنه تعالى استأمن على دينه بَشَراً يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق خَصَّهُم بالوحي هم أنبياؤُه ومُرْسَلُوه، حتى إذا نَضِجَتِ البشريةُ نُضْجاً خَتَمَ الرسالةَ والنبوةَ وبَعَثَ مِنْ خلقه عَلَى رَأْسِ كُلِّ مائَةِ سَنةٍ مَنْ يَرِثُ أمانَتَهما ويجدد وظيفتَهُمَا. قال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مائَةِ سَنةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا” (رواه أبو داود والبيهقي والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه) .

الإيمان -بما هو معنىً ربَّانِيٌّ- لا يَخْلُقُ كما يخلقُ الثوب، ودينُ الله -متمثِّلاً في الْوَحْيَيْنِ: (الكتاب والحكمة)- لا يَبْلَى. حاشاهما. ولكنَّ بِلَى الأَجْوَافِ وعِلَلَ القلوبِ والأوعيةِ هي التي تُعْيِي وتضعف معنى الإيمان فيها (تَأَمَّل بيانه صلى الله عليه وسلم في عبارة: “فِي الْقَلْبِ” وعبارة: “فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ”!!!) فتحتاج إلى التّرياق الشافي والطبيب الْمُعَافِي بإذن ربه. وطولُ الأمد على الأمة -حُبّاً للدنيا وكراهيةً للموت- يَنْخُرُ قُوَاهَا فيُعْجِزُها عن حمل الأمانة فتحتاج إلى من يستنهضها بتجديد دينها بما هو امتدادٌ لِمَدَدِ النبوة ولروح الرسالة.

وهذا هو المقصود بتجديد الدين وبتجديد الإيمان: بَعْثُ “خَلْقٍ جديد” تستطيع أوعيتُه بصفائها وأجوافُه بأصالتها وقلوبُه بنقائها أن تحمل هذا الدين العظيم بِوَحْيَيْهِ بقوة وأمانة.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى