مقالات

إِنَّ الشَّجَا يَبْعَثُ  الشَّجَا

قرأت مرة على بعض الأحبة – ممن يفيض الله تعالى بصحبتهم ما يفيض من نفحات – بعضَ ما جاد به سبحانه، فلما انتهيت استحسنوا ما استحسنوا قبل أن يستدركوا مجمعين على أنني ما أفتأ أتحين الفرص لأتحدث عن المحبة والمحبوب، وكادوا يكونون مني بقولهم ذاك مكان العاذل من المحب. ولولا ما أطلعني عليه الزمان العصيب من صفاء قلوبهم لأَوَّلْتُ عَذَلَهُمْ تأويلا… وما كان رأيهم ذاك إلا حرصا علي من ألسنة من لم يذق للمحبة طعما.

وقد سَايَرْتُهُمْ فيما رأوا وَدَارَيْتُهُمْ، وأسررتُ ما بنفسي ولم أُبْدِهِ لهم، وتذكرتُ حال الشاعر متمم بن نويرة اليربوعي:

قال أبو علي القالي في أماليه: حدّثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو حاتم وعبد الرحمن عن الأصمعي قال: قدم متمم بن نويرة العراق فأقبل لا يرى قبراً إلا بكى عليه، فقيل له، يموت أخوك بالملا وتبكي أنت على قبر بالعراق؟! فقال:

لَقَدْ لاَمَنِي عِنْدَ الْقُبُورِ  عَلَى الْبُكَـا             رَفِيــقِي لِتَذْرَافِ الدُّمُوعِ السَّوَافِـكِ:

أَمِـنْ أَجْـلِ  قَبْرٍ  بِالْمَلاَ  أَنْـتَ  نَائِـحٌ             عَلَى كُلِّ قَبْرٍ أَوْ  عَلَى كُلِّ هَـالِـكِ؟

فَـقَـالَ: أَتَبـْكِي كُــلَّ  قَـبْــرـٍ  رَأَيْـتَـهُ            لِقَبْرٍ ثَـوَى بَيْنَ اللِّـوَى فَـالـدَّكَـادِكِ؟

فَقُلْتُ لَهُ” إِنَّ الشَّجَا يَبْعَثُ  الشَّجَا            فَـدَعْنِـي فَهَـذَا كُـلُّـهُ  قَـبـْرُ  مَـالِـكِ

فإذا كان هذا الشاعر يذكر محبوبه الفقيد عند كل قبرِ ميتٍ لا نسب لساكنه بأخيه، أفأُلام أنا إن ذكرت محبوبي عند كل نسمة تتحرك بما فيها من نسبة الحياة إليه؟ 

أيُّ معنًى لحياةٍ لم تعطرها زكاة أنفاسه، وأي شفاء لعليل لم تمسح على صدره العاني لمسة الرحمة من راحته، وأيُّ حَمْدٍ لِسَارٍ لم تُوافِه أنوار الصباح من إمداداته.

لعياله في كل روح منهم مشكاة يوقد مصباحها من سِرِّ النبوة الممدود إليهم بِبَيْضَاءِ أياديه، وكفى بها نعمةً أن يُرْزَقُوها دون سعي أو مسألة أو أنْ يَرِدَ على النفس منها خاطر وقد كانوا من قبلها من الغافلين الشاردين، ولا ينتفعون بكمالها إلا إن كانوا بها أوثق منهم بما يحمدون لأنفسهم مما يظنونه من عند أنفسهم وما هو من عند أنفسهم؛ “قل كل من عند الله”.

ولا مجال هنا للتباهي بالسبق أو القرب، فإنما الحمد لمن يخلق ويعطي وينسب إليهم ببركة المحب المحبوب، يقسم ويمنح من كرامة الصحبة والمحبة كلاًّ بما يرى من مواقع الأقدام وحظوظ العطاء ومراتب ما سبقت به الحسنى. فإن لهج لاهج بما سبق فإن العبد لا شيء له فيلهج لنفسه مع اللاهجين بحمد وهو الأخرس لساناً، الأبعد مكاناً، المنشغل بمخالطة العامة وهموم المساكين ومطالب الممسكين بتلابيبه، حتى إنه لا ظن لأحد باستحقاقه لما ينال أولئك. وما ندري، فإنما هي الحياة الدنيا، لا يظهر لسعي العبد فيها حقيقةٌ إلا عند نشر الصحف باليقين القاطع، فـ“هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ للهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقُبًا”.

هي كلمات تستغفر لصاحبها في هذا السَّحَر جرأته على الحديث عمن غلبه الشوق إليه في هذا الثلث الأخير من الليل، وإلا فإن الحديث عن المحبين المحبوبين، المصطَفَيْنَ من عباد الله وُرَّاث النبوة، مَنْ منحهم المولى من العطاء أجزلَه ومن المدارج أعلاها ومن المدارك ما ينقلب البصر من بهائها خاسئا وهو حسير… إن هذا الحديث لا يَسْلَمُ من الزلل… وإنما هو فيما لثغ طفل يطمع أن تستره رحمة أب تتجاوز عن لثغة الطفولة ودلال الطفولة وجهل الطفولة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى